يشوّش اسم الفيلم على مضمونه، إذ يوحي لمتابعه أنّه ذاهب إلى عالم الرقص الشرقي الشهير (Belly Dance)، والذي عرف عصره الذهبي مع راقصات محترفات تخرجّن من فرقة الراقصة الأم- إن صحّ القول- «بديعة مصابني 1892- 1974» ذات الأصول اللبنانية، وبالتحديد سامية جمال (1924- 1994)، وتحية كاريوكا (1919 – 1999) اللاتي تميزنّ عن راقصات مرحلة الخمسينيات والستينيات الأخريات، وليس عبثا أن الراحل إحسان عبد القدوس اعتبر أنّ تحية كاريوكا هي التي استطاعت أن تحوّل: «الرقص الشرقي إلى فنٍ بعد أن كان استعراضا للجسد».
إلاّ أنّ الفيلم التسجيلي الطويل نسبياً الذي شاهده جمهور «نسويّة» و»نادي المواطنة السينمائي» لم يقترب من هذا العالم السحري للأسف. بل ذهب بحثاً عن ميلودراما أحياء الفقراء، والوجع الإنساني الكامن خلف أضواء الأزقة الشعبية واحتفالاتها الصاخبة. ذهب إلى اليوميّ، إلى تفاصيل الحياة العادية لعوالم مصر اللواتي لسنّ راقصات، ولسنّ «مِعَلِمَةْ» وفق المصطلح الشعبي للمرأة التي تعمل في وسط ذكوري بأعمال التجارة أو سواها. «عوالم» مصر أو «العَالمَة» هنّ نساء يتمايلن، يعرضنّ أجسادهنّ بأثوابٍ تقارب أثواب الرقص الشرقي لكنها ليست بدلات رقص فعلياً، علماً أنّ ملابس الرقص الشرقي تختلف باختلاف مدرسة الرقص ما بين كاريوكا وجمال على سبيل المثال، ومن هنا فإنّ تمايلهنّ وإن تضمّن تدريباً على حركات تستخدمها الراقصات في فنهنّ إلاّ أنّه في المسافة ما بين رقص العوالم ورقص المحترفات من فنانات الرقص الشرقي يَكمُن الجوهر في فن الرقص الشرقي، الذي تفتقده أغلب راقصات اليوم للأسف. من هنا أطلق البعض على رقص العوالم اسم «راقصات الدرجة الثالثة».
وفق الحكاية القديمة، الكلاسيكية بعمر الغبار فوق أعتق مجلدات الكتب، تعيش رضا حياة الفقر الشديد، فتعمل على مواجهة قسوة الحياة ومراراتها في ما تُسميه «الرقص» وتقول: (دي هند نزلت من بطني رقاصة). هند احدى بناتها الثلاث، اللواتي تدربهنّ منذ نعومة أظفارهنّ على العمل الذي سيمتهنه لاحقاً.
الفيلم أثار اهتمام الجمهور بواقعيته المباشرة، إذ لا مجاملة، لا زيف، لا كلمات مُنمقة أو إعدادات للأداء قبل التمثيل. بحقيقة أنّه وعلى مَقرُبة منا، هنا أو هناك، يقبع عالم آخر نجهله غالباً، له قوانينه الاجتماعية، منظومته اللغوية والحركية، كما نواظمه الاجتماعية وضوابطه الأخلاقية الخاصة به. تلك النسوة وإن كُنّ عالمات يسعين عبر «العَرض» والعرض وحده لكسب المال، وربما حصدْ زوج ميسور مالياً، فهنّ يرفضنّ وبقسوة شديدة أي فعل يمتد أبعد من حالة «العَرض». ويمكن أن يصل الأمر إلى حد القطيعة بين الأم وابنتها إن خرجت الابنة مع رجل متزوّج على سبيل المثال، فنساء ذاك العالم يحترمنّ عالم المرأة الخاص، ومفهوم الأسرة، ويرفضنّ وفق قولهنّ: (أن يَكُنّ سبب خراب منزل وأسرة).
في الفيلم، نرى أنّ حضور الرجال في ذاك العالم هو حضور الكومبارس وحضور الجمهور السلبي، بلا أثرٍ ولا أهميّة، حتى أنهّم كجمهور يظهرون في حالات كثيرة غير عابئين بالعرض ذاته، بل ربما قليلاً بما يظهر من الجسد البشري. العمل هنا هو العَرض. له وقت دوام يُقدّم لنا وكأنّه يمتد ما بني منتصف الليل والرابعة فجراً، له قوانينه، وأهمّها أنّ العارضات لا يرقصنّ بشكلنٍ مُنفرد، بل هي حالة جماعية، اصطفافاً أو يُشكلنّ دائرة، وبهذا يخلقن شكل حماية لأنفسهنّ من أي هجمات ممكنة من أحد حضور عروض الشارع هذه، وفي الوقت ذاته يُقدّمن للجمهور عرضاً أوسع، وعدداً أكبر من العارضات.
الإضاءة الباهرة والمتلونة في احتفالات الأحياء الشعبية يُقابلها الأسود في معظم مشاهد النهار، صخب الأصوات الموسيقية والضحكات الذكورية في الليل يُقابله الصوت الحاد لمشاكل الحياة اليومية في النهار، المكياج الثقيل للعارضات في الليل يُقابله البشرة المُتعبة، القاسية، والعيون الباكية أو الشاكية، أو المُقاتلة نهاراً. بريق الجمال الفج في الليل لا يُقابله أي صفاءٍ في النهار. تشتغل المخرجة لافيني باهتمام على كل هذه التفاصيل، على الطفل الصغير الذي يتجوّل في المنزل عارياً على الدوام، على غياب أي تعبيرات عاطفيّة- تقريباً- عن الحالات الإنسانيّة الجميلة، باستثناء لقطة واحدة تنادي فيها إحدى بنات رضا على ابنها الصغير لتقبله على رأسه كما تفعل كل أم، وتقصي الكاميرا، وتبعد كل ما يمكن أن يُشوّش على بورتريه النساء هذا، الغارق في تفاصيل تلك الحياة التي اختارت المخرجة في المُحصلة النهائية أن تعرضها كحياة موحشة، مليئة بالقسوة، لكن السؤال يبقى برسم المخرجة، هل هي الحياة فعلاً موحشة إلى هذا القدر؟ أو ليس في كل عالمٍ مهما كان قاسياً شيءٌ من جمال أو فرح مهما كان بسيطاً أو عابراً؟ وفي الوقت ذاته أليس في كل نمط حياةٍ وعمل قدر كبير من القسوة؟ أولا يمكن للحياة أن تكون موحشة خارج عالم الليل بما لا يقل قسوة عن وحشة هذا العالم؟! حول هذا دار نقاش طويل أعقب الفيلم بين حضورٍ غالبيتهم من السوريين الذين فاض بهم شرطهم الخاص مراراً وحُزناً، فكان أن تلقوه بسلبية هم الباحثون، العطشى لقليلٍ من فرح، وآخرون تلقوه بمنطقيّة فنية وموضوعيّة أكثر واعتبروه بورتريه سينمائي جيد الصُنع يعَرض عالماً خاصاً هو بعيدٌ/ قريب.
في المقابل، نتمنّى على النادي عرض فيلم المخرجة اللبنانية «نبيهة لطفي» التسجيلي عن «سيرة حياة تحية كاريوكا» لنقف أكثر على المسافة الفاصلة بين فن الرقص وحياة العوالم، كاريوكا التي كتب عنها المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عام 1990 مقاله الشهير «تحية إلى تحية» ضمن كتاب «تأملات في المنفى» الصادر عام 2004. أو ليته يستعيد لنا فيلم صلاح أبو سيف «شباب أمرأة» الذي مثل مصر في مهرجان «كان» السينمائي عام 1956 وحصلت كاريوكا بسببه على جائزة الدولة، يقول أبو سيف: حاولت أن أقدم نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه الأنوثة في نضجها و»الإثارة الجنسية» دون ابتذال. (رؤيه للمخرجه الكنديه عن حياة راقصات الافراح فى المجتمع المصرى نشأتهم حياتهم بكل تفاصيلها)
يرقصن ليلا
ردحذف